ممارسات إنسانية وبشرية كثيرة يمكن بسهولة إحالتها إلى غريزة البقاء؛ ممارسات واعية وأخرى غير واعية، تبدأ من النوم، والأكل، وتمر في التكاثر، والاستملاك، وصولاً على أكثر أشكال التعبير الإنساني عمقاً وتجريداً كالحب والكتابة والخوف والحزن، لكن ماذا عن الفضول؟ هل يمكن رده إلى غريزة البقاء؟
ربما، فالفضول في صورته الظاهرة رغبة في المعرفة، والمعرفة محاولة جاهدة للعثور على الأمان، رغم أنها تكشف عن وجهها بعد شوط وتصبح مجازفة ومغامرة قاسية وحادة تحمل معها كل أشكال الخوف والقلق، وتهز كل الأراضي التي يمكن الوقوف عليها وتبقي الباحث عنها في حالة تعب دائم.
يبدو الفضول في ممارسته الأولى قابلاً للإحالة إلى غريزة البقاء، أعني عند النظر إليه من مكان الراغب في معرفة ما يجري حوله ليظل واعياً وجاهزاً وفي المحصلة قادراً على البقاء أكثر، لكن الواقف ملياً عند جوهر الفضول يدرك أنه عطش للتماهي مع المعرفة الكلية، أي بصورة أكثر وضوحاً هو رغبة غير مدركة في تجاوز تجربة العيش إلى ما بعدها.
يمكن القول: إن أقصى درجات الفضول هي الرغبة في الموت، حيث يتعدى الفضولي محاولته لمعرفة نفسه وتفاصيل ما يحيط به إلى رغبة في معرفة ما بعد الحياة.
أعتقد أن هذه المحاولة القاصرة لفهم الفضول كانت ضرورية، أعني بصورة أخرى التعويل على فضول القارئ، فليس كل من يبدأ بالقراءة سيواصل لمعرفة ما أهمية الفضول في مستقبل العلاقات العامة.
إذا كانت العلاقات العامة قائمة في واحدة من أركانها على تقديم رسائل للجمهور لصناعة وبناء صورة عن حدث أو شخص أو كيان أو مؤسسة أو حتى دولة، فإن الفضول هو اللاعب السري في هذه المهنة، اللاعب الذي يتوارى بسهولة ويكاد يختفي في التفاصيل.
ليكون الأمر واضحاً، لماذا نجد أنفسنا نقرأ نصاً بانهماك ومتعة ولا نريد أن ننزع أعيننا عنه، فيما يكفي سطر واحد من كتاب لنلقي الكتاب جانباً ولا نفتحه مطلقاً؟ لماذا نجد أنفسنا حبيسي الأنفاس أمام شاشة التلفاز مرات ومرات تنقل القنوات واحدة تلو أخرى ولا نجد ما يوقفنا ويدفعنا للمتابعة، لماذا نتابع صوتاً في المذياع ونتجنب آخر؟
من السهل جداً رد كل ذلك إلى جودة وإبداع المحتوى المقدم مرئياً كان أو مسموعاً أو مكتوباً، لكن الحقيقة أن ذلك رغم أهميته ليس هو الحاسم في إبقاء المتلقي مشدوداً لما يعرض أو يقدم، الحقيقة أن الفضول هو العامل الحاسم، فهو الشعور العميق الداخلي الذي يحرّك الجماهير ويدفعها للتجمهر وإطفاء تعطشها للمعرفة والمتابعة.
لهذا فإن مستقبل العلاقات العامة وصناعة المحتوى وإنتاج الرسائل ليس بيد من يقدم محتوى أجود وأكثر مهنيّة فحسب، وإنما بيد من يجيد صناعة الفضول وغرسه في نفوس وعقول الجماهير والحفاظ على المستوى المطلوب منه ليضمن تدفق الرسائل ويضمن الأثر المطلوب.
حتى يصبح الأمر أكثر وضوحاً، لماذا وقفنا مرات كثيرة نتابع باهتمام أخبار شخصيات، أو منتجات، أو أفكار لا يعنون لنا شيئاً، وربما هي ساذجة وسخيفة ونحن نعرف أنه لا قيمة لها؟
في الواقع نحن كنا تحت تأثير صنّاع الفضول في إحدى مستوياته، فإما الفضول الذي يمنحنا الأمان بين المجاميع البشرية ويجعلنا نشعر أننا منهم، وإما الفضول الذي يجعلنا متفردين عن المجاميع البشرية وننتمي إلى مجموعة ضيقة تحمل صفات التفوق عن غيرها من سائر المجاميع، وإما الفضول الذي يجعل منا مهمين ومميزين وربما خطرين.
لهذا أعتقد أن ما ينبغي أن يسأله عقول العلاقات العامة اليوم: هل سنكون صنّاع فضول؟ أم صناع محتوى؟